قانون تنظيم بناء وترميم الكنائس في مصر- منتصر علم الدين


ومن ثم تحاول هذه الورقة البحثية أن تجيب على هذه التساؤلات ، وسنبدأ بنبذة تاريخية عن تطور قوانين تنظيم ممارسة الشعائر والأبنية  الدينية ومدى توافق هذه القوانين مع السياق الدستوري التي صدرت في إطاره ، ثم نقدم عرضا تحليليا ونقديا لقانون تنظيم بناء وترميم الكنائس المنشور بالجريدة الرسمية في 28/9/2016 وأهم مواده وذلك في ضوء مواد الدستور وأحكام المحكمة الدستورية العليا ومحكمة النقض.

أولا : قوانين تنظيم ممارسة الشعائر وبناء الكنائس في مصر ( نبذة تاريخية ) :

فى عام 1856 أصدر السلطان عبد المجيد، سلطان الدولة العثمانية مجموعة قرارات اشتهرت باسم ” الخط الهمايوني ” ، وعلى خلاف ما هو شائع فقد مثلت هذه القرارات نقطة تحول فى علاقة دولة الخلافة العثمانية مع باقى الأديان والملل الموجودة فى السلطنة إذ اشتملت على إزالة كل المعوقات أمام  بناء أو ترميم دور العبادة ‘ ولكنها تضمنت بندا ينص على أن تراخيص بناء وترميم الكنائس لا يكون إلا بقرار من السلطان شخصيًا وهو النص الذى تمسك به كل حكام الدوله المصرية طوال العهود الماضية رغم تناقض ذلك مع كافة الدساتير والمواثيق الدستورية بدءا من دستور 1923 الذي نص على ” المصريون لدى القانون سواء ، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة ، لا تمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو الدين ”  ونص على أن : ( تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية علي إلا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينفي الآداب ) .

وفي ظل هذا الإطار الدستوري الذي يكفل حرية العقيدة وحرية القيام بالشعائر أصدر وكيل الداخلية المصرى “محمد العزبى باشا  ” في فبراير 1934 قرارا بوضع عشرة شروط لبناء الكنائس، وجاءت جميعها مناقضة لكل المبادئ الدستورية الخاصة بحرية العبادة وإقامة الشعائر والمساواة بين المواطنين ووضعت عراقيل عديدة أمام بناء الكنائس ، واستمرت هذه العراقيل قائمة على الرغم من صدور عدة أحكام من محكمة القضاء الإدارى بإلغائها لأنها تتنافى مع حرية التعبير والاعتقاد والعبادة .

والملاحظ ان كافة الدساتير والإعلانات الدستورية المصرية التي تلت ذلك قد نصت علي حرية الاعتقاد فقد نصت المادة 4 من الإعلان الدستوري الصادر في 1953 على أن:

( حرية العقيدة مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية علي إلا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب. وابقى دستور 56 على نفس المبادئ وكرر دستور 1964 ما جاء بدستور 1923، وكذلك الدستور الدائم الصادر في 1971 .

وعندما قامت ثورة 25 يناير جاء الاعلان الدستورى الذى صدر فى 30 مارس 2011 لينص على أن ( تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية ) ، ونصت المادة 43 من دستور 2012 على أن ( حرية الاعتقاد مصونة.وتكفل الدولة حرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة للأديان السماوية وذلك على النحو الذي ينظمه القانون)

وفي يناير 2014 صدر الدستور المصري الحالي وجاء نص المادة 235 من الأحكام العامة والانتقالية منه لينص علي أن « يصدر مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانونا لتنظيم بناء وترميم الكنائس بما يكفل حرية ممارسة المسحيين لشعائرهم الدينية” و إعمالا لهذه المادة صدر  قرار رئيس الجمهورية  رقم 80 لسنة 2016 بإصدار قانون بشأن تنظيم بناء وترميم الكنائس .

 

ثانيا : قانون بناء وتنظيم الكنائس ( رؤية تحليلية في ضوء المبادئ الدستورية ) :

جاء القانون الذي نشر في الجريدة الرسمية في 28 سبتمبر 2016 في عشرة مواد ، تضمنت الأولى التعريفات الواردة في القانون، أما الثانية فتنص على ” ضرورة تناسب مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة التي تقام بها، ونصت المادة الثالثة على أن “يتقدم الممثل القانوني للطائفة إلى المحافظ المختص بطلب للحصول على الموافقات المتطلبة قانونا للقيام بأي من الأعمال المطلوب الترخيص بها، مرفقا بها مستندات الملكية والمستندات اللازمة لبيان طبيعة الأعمال المطلوبة ، أما المادة الرابعة فقد أوجبت على المواطنين المسيحيين أن يتبعوا نفس الإجراءات في حالة طلب الحصول على ترخيص للهدم وإعادة البناء والترميم ، أما المادة الخامسة فتحدد كيفية تعامل المحافظ مع الطلبات المقدمة، وضرورة الرد خلال مدة لا تتجاوز أربعة شهور على أن يكون الرد مسبباً في حالة الرفض”. وتنص المادة السادسة على حصول الطائفة الدينية على ترخيص من الجهة الادارية بالأعمال المطلوبة , وتنص المادة السابعة على أنه ” لا يجوز تغيير الغرض من الكنيسة المرخصة أو ملحقاتها إلى أي غرض آخر، وأخيرًا، فالمواد الثامنة والتاسعة والعاشرة تناولت تقنين أوضاع الكنائس والمباني الخدمية المقامة بدون تراخيص رسمية.

وقد واجه القانون منذ بداية طرحه عددا من الانتقادات نوجزها فيما يلي :

الانتقاد الأول يتعلق بالنواحي الإجرائية حيث لم يحظ القانون بالنقاش والمداولات المطلوبة ولم يطرح لحوار مجتمعي حقيقي واكتفت الحكومة  بإدارة نقاش مع  قيادات الكنائس الثلاث الكبري وكأنهم هم المعنيين فقط بالقانون، في حين أن قانونًا على هذه الدرجة من الخطورة يهم كل المواطنين وليس المسيحيين منهم فقط، وبالطبع ليس رجال الدين فقط ، فضلا عن ذلك فان أعضاء البرلمان لم تتح لهم فرصة المناقشة المستفيضة أو إجراء التعديلات المطلوبة على عدد من المواد وتم الاكتفاء بإثبات طلبات التعديل والإيضاحات التي تقدم بها الأعضاء في مضبطة الجلسة و أكد رئيس مجلس النواب ” على ضرورة أن يخرج هذا القانون بشكل توافقى، قائلا: “حق المجلس مقيد فى هذا القانون، فهذا قانون يجب ألا يتم التغيير فيه رغم أنه من حق المجلس لكن هذا القانون له طبيعة خاصة تقتضى أن تتوافق عليه الثلاث كنائس”.

الانتقاد الثاني يخص فكرة القانون ذاته فوفقا لمباديء الدستور يجب أن يكون بناء دور العبادة متاحاً لجميع المواطنين بدون معوقات،  أو على أقل تقدير أن يوضع قانون عام لتنظيم بناء دور العبادة  يساوي بين المواطنين كافة ، لكن أن يخص المشرع  بناء الكنائس بقانون خاص فيحمل في طياته رسالة تمييزية تفرق بين المواطنين حسب ديانتهم .

أما فيما يخص نصوص القانون ‘ فانتقد البعض استخدام القانون لفظ “الطائفة المسيحية” للحديث عن المواطنين  المسيحيين  وهي كلمة لها مدلول سياسي واجتماعي مخالف لحقوق المواطنة التي كفلها الدستور. فضلا عن أن القانون (مادة 2) يربط بين مساحة الكنيسة المراد بنائها وبين عدد مواطني المنطقة من المسيحيين وحاجتهم، وهو ما يمثل قيداً مزدوجا على بناء الكنائس: فهذه المادة تخالف الدستور الذي ينص على حرية ممارسة الشعائر الدينية لأصحاب الديانات السماوية بغض النظر عن العدد ( مادة64 ) ومن ناحية ثانية، تنص المادة على قيد إضافي هو قيد الاحتياج، ولم تحدد معايير محددة للاحتياجات .

وكذلك فالمادة (4) التي اشترطت نفس الإجراءات في حالة الترميم فانها تمثل تقييدًا لحق ممارسة الشعائر الدينية، فضلا عن أنها تهدر أحكام القضاء المصري، وأهمها حكم الدائرة الأولى للقضاء الإداري بتاريخ 26 فبراير 2013، حيث أكد الحكم أنه بحصول الكنيسة على ترخيص رئيس الجمهورية بالنشاط فلا تحتاج إليه مرة ثانية عند إعادة البناء أو الترميم ومن ثم يصبح تفويض رئيس الجمهورية للمحافظين مفتقرًا للسند القانوني .

فالمعارضون للقانون يرون أن دور الحكومة يجب أن يقتصر على احترام الحق في البناء، وتعزيزه بما يكفل حرية ممارسة الشعائر الدينية، لكن القانون يمنح سلطات واسعة للسلطة التنفيذية في انتهاك حق بناء وترميم الكنائس، ويبسط أيدي الأجهزة الأمنية على منح التراخيص، ومراقبة الأنشطة وأية تعديلات على المباني الدينية.

بينما يرى مؤيدو القانون أنه يعتبر خطوة للأمام حيث ألغى كل ما سبقه من قوانين وشروط جائرة ومتعسفة تمسكت بها الدولة، وأعطى تسهيلات نسبية فى هذا المجال، ويمكن اعتباره مادة مناسبة يمكن الانطلاق منها والبناء عليها فى المستقبل ، كذلك فإن القانون سوف يساعد على تقنين اوضاع كافة المباني الكنسية غير المرخصة ، ويرى المؤيدون كذلك أن القانون يحد من التدخلات الأمنية التي كانت تتحكم في السابق في عملية بناء الكنائس .

والخلاصة أن الممارسات على أرض الواقع وقدرة القانون على وضع حد للتوترات الطائفية الناتجة عن عملية بناء الكنائس ستثبت ما إذا كان القانون قد حقق هدفه في القضاء على الجذور المسببة للتوترات الطائفية وإزالة العوائق أمام ممارسة المسيحين لشعائرهم الدينية ، أم أن القانون هو مجرد إطار شكلي وإعادة إنتاج لأمر واقع يفرض معوقات أمنية وإدارية في إطار قانوني .

 

منتصر علم الدين

تقارير ومقالات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *